لورنس العرب والمشهد السياسي والإجتماعي في سورية إبان الحرب العالمية الأولى
مدنيون
في أحد شوارع دمشق في تشرين الأول/ أكتوبر 1918
من يبحثُ في تاريخنا, سيُلاحظ أمرين، الأول: أرضٌ تمتلكُ من العراقةِ ما يكفي لتوزيعها إلى العالمِ أجمع، بينما الأمر الثاني: هو شعبٌ ابتلتهُ الجغرافيا ليكون فريسة الماضي و الحاضر، لا نستطيع أن نلوم نفسيتنا السّوريّة الّتي تطورت عبر تراكم السّنين عن ما نُعانيه اليوم، لأنَّ إذا حللنا أنفُسنا، سنقع مع ذواتنا في تناقض عظيم.. ومنطقي في نفس الوقت!!.
يذكرُ
"توماس إدوارد لورنس" (1888-1935) المشهور باسم "لورنس العرب"
في مُذكرتهِ العريضة "سوريا وموادها الخام" واصفًا سوريا، بعد زياراتهِ
المُتكررة لها: "من خلالِ الصُّدفةِ والوقت، انتشرت اللُّغة العربية في سوريا
بشكلٍ تدريجي، إلى أن وصلت لتكون اللُّغة الوحيدة المُتسعملة في البلادِ تقريبًا،
لكن هذا لايعني, بأنَّ سوريا عربيّة..كذلك مصر، ف على السّاحل السّوري يوجد القليل
من الشعور العربي أو العادات و إن كانت شبه معدومة، بينما على حافة الباديّة الأمر
يبدأ بالإختلاف".
ما نُعانيه
اليوم من مشاكل إجتماعيّة وعقائديّة وفكريّة، وكذلك سياسيّة واقتصاديّة، تأخذُ
الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) الحُصّةُ الأكبر من اللّوم بعدَ الاحتلالِ
العثماني، في خلالِ الحرب، أُقيمت مُباحثات سريّة بين كُل من وزارة الخارجيّة
الفرنسيّة و المملكة البريطانيّة و روسيا القيصيريّة، تَمْ التوصل فيها إلى اقتسام
الدولة العثمانيّة الضعيفة آنذاك، وعندما خرجت روسيا من الحرب من خلال صعود
البلاشفة إلى السُلطةِ، نشروا وثيقة "سايكس-بيكو" إلى العامة، وشكلت
عندها إحراج لمْ يؤثر بشيئ على سياسة فرنسا وبريطانيا الخارجيّة.
سنتتبع على
هذهِ الرسالة، الحالة السّياسيّة و المشاعر الوطنيّة الّتي كانت سائدة في سوريا في
الحرب العالميّة الأولى، من خلالِ ما كتبهُ "لورنس العرب" في تقاريرهِ
إلى حكومتهِ و كتابهِ أعمدة الحكمة السّبعة, وبالطبع لقد حَظيتُ بالعديدِ من
الإهانات من خلالِ وصفهِ لنا، و مًسستُ في كتاباتهِ طعمَ الشّفقةِ علينا، وعرضَ
مشاكِلنا كما هي من دونِ أيِّ تحيز، لكن لولا ما كنت تلك الحقيقة لما شعرتُ بهذا
الأسى.
الثورة والوعد والخيانة:
أطلقَ
شَريفُ مكة "حُسين بن علي الهاشمي" (1854-1931) الثورة العربيّة على
الاحتلال العُثماني في حُزيران/يونيو 1916، لَمْ تُشكل
حينها خطرًا على القوات العُثمانيّة في مُدنِ الحجاز، وكونُ معظم سُكان الحجاز
اعتبروا الدولة العُثمانيّة خلافة إسلاميّة لا يجوز التعدي عليها و إلّا ستكون
خيانة لِأُخوتهم في الدين، ف ألحت الحاجة للتوجيه والتسليح والرؤيّة، وما كانَ أفضل
من "لورنس" ليقوم بهذهِ المهمة، وغايته الرئيسيّة، كانت مدينة دمشق، من
خلالِ هذا الهدف استطاعَ إقناعِ بعض القبائل العربيّة في شبه الجزيرة بالقتالِ
معهُ، بِمُقابلٍ مادي، وسيطرَ على مدينة العقبة في تموز/يوليو 1917 وبدأت حربهُ
على سكة حديد الحجاز، ولكن مع ذلك عانى بتجنيدِ المُقاتلين لعودة العديد من رجال
القبائل إلى ديرتهم فورَ حصولهم على غنائِمهم.
توجهَ
"لورنس" بطلبٍ من حكومته إلى سوريا، للبحثِ في إمكانيّة قيام ثورة في
دمشق أو بيروت و دراسة الوضع العام فيها، و تفاجئ بالرأي العام, فكتبَ: "إنَّ
وجود حكومة عربيّة في سوريا، من رُغمِ دعمها للتحيُزات العربيّة، ستكون شيئً
مفروضٌ عليها مثل الحكومة التُركيّة أو كحمايّة أجنبيّة أو كخلافة مُحمديّة..
سوريا سَتَظلُّ فُسيفُساء عرقيّة و دينيّة ملونةٌ بشكلٍ واضح"، و أضافَ
لاحقًا في كتابهِ أعمدة الحكمة السّبعة: "مِمَ لاشكَّ فيه أنَّ العديد من
سُكانِ دمشق كانوا يخشون من النهبِ المدينة من قبل قوات الأمير فيصل المُتقدمة, فقبل دخول القوات العربيّة إليها، دخلت وحدة أُستراليّة كانت تلاحق فلول العثمانين
و حظيت تلك الوحدة بترحيبٍ حار".
إنَّ هذا
الترحيب الّذي حَظيوا فيه قوات الأنزاك (القوات الأُستراليّة والنيوزلنديّة) و
الانكليز, يذكرني بالترحيب الّذين حظيوا فيه أيضًا عندَ دخلوهم القدس، عندها خرجَ
حاخام المدينة و شيخها و مُطرانها، ليرحبوا بالبريطانيين كمُحررين و قدموا لهم
مفاتيح المدينة، ولكن لطالما كانت هذهِ العادة، الجميع مُرحب فيه، الفُرس و
الرومان و العرب و التتر و المنغول و السّلاجقة و الصّلبيين و العُثمانيين، وأيضًا
جرت العادة، أن فور ترحيبنا بالغريب، نبدأُ عندها بحيك المؤمرات عليه لطرضه،
غالبًا ما نفشلُ في ثوراتنا على المُحتل، و يُبرر "لورنس" فشل قيامِ
وحدة سوريّة بأنَّ: "السّوريين، دائمًا ما تجدهم ساخطين مع من لديهم من حكومة،
وهذا بسببِ كِبريائهم الفكّري، لكن في الحقيقةِ القليلُ منهم فكّروا ببديلًا، و
قلّة من هؤلاء اتفقوا على رأيٍ واحد".
بالطبع كانَ
الشّارع السّوري يغلي أثنائها، وذلك يعود إلى المجاعة الّتي حدثت في لُبنان، ومجازر
سيفو بحق السّوريين المسيحيين والإبادات الأرمنية، وهجرة الأرمن والسّوريين من أراضيهم
التاريخيّة و من كيليكيّة والشّمال إلى الداخل السّوري، بعضهم استقر في مُدننا و
البعض رُميى في باديّة دير الزور ليُلاقي حتفهُ، وسياسية التتريك وتركيا الفتاة
مزّقت أواصل الود بين سكان بلاد الشام والأتراك، وكانت الثورات والتمردات المحلية
المحدودة تنبُع وتُجفّف بسرعة في الأردن ولبنان والشام، بالإضافةِ إلى المذبحةِ
السّياسيّةِ الّتي قامَ بها "جمال باشا السّفاح" (1872-1922) بحقِّ صفوة
المثقفين و القادة المدنيين في ساحة المرجة بدمشق وساحة الشهداء في بيروت في 6
أيار/مايو 1916، قوضت احتماليّة صعود حراك سوري على التركي في داخل المدن الكبيرة
مثلِ دمشق و بيروت وحلب.
و وصفَ
"لورنس" الإعدامات في مُذكّرةٍ كتبها في كانون الثاني 1918 نُشرت في
شُباط من العامِ نفسه: "عندما اندلعت الحرب ظلّوا في سوريا، ظانينْ بأنهمْ
آمنينْ، و بالطبعِ، بشّروا بثوراتهم في صحفهم اليوميّة، قلوبهم كانت تَسطَعُ،
بريئين من أيِّ منهجٍ ثوري، كانوا مذهولين عندما اقتدادَهُم جمال باشا لإعدامِهم
كقادةٍ لحراكٍ ثوري، لقد شاهدوا بأعينهم المُتآمريين الحقيقيين، رجال ليلًا نهارًا
أوعظوهم بالقتال المُسلح على التُركي، يمشون بكُلِّ حُريّة في شوارعِ دمشق،
ليتجمعون لِمُشاهدةِ الإعدامات، بَعضَهُمْ لَبِسَ ثوب الشّهيد و ماتَ بصمتْ، و
آخرون اخذت عليهم مرارتهم و أخبروا الأتراك بكُلِّ الأشخاص الّذين تعرفوا عليهم من
الحضور ليذوقوا معهم الألم الّذي سيتذوقوه، ولكن في مُعظمِ الوقتِ كانَ جمال باشا
يضحك".
كانت غايّة
الثورة العربيّة، هي إقامة مملكة للهاشميين على كاملِ شبهِ الجزيرةِ العربيّة و
سوريا الطبيعيّة، و كانت أساسًا فكرة بريطانيّة لإقناعِ "الشّريف حُسين"
بإطلاق ثورة على العُثمانيين، لتشتيتِ انتباهِهم عن معاركِ جنوبِ بلاد الرافدين
والقوقاز والبلقان، فالثورةِ العربيّةِ المُفترضة ليست بإلّا جبهة من جبهات القتال
في الحربِ العالميّةِ الأولى، وقالَ أحد المُخططين للثورة و رئيس المُخابرات
البريطاني في مصر العميد "جيلبيرت كلايتون" (1875-1920): "لا نُريد
أي قوّة عربيّة موحدة، ليست تحت إمرة الشّريف ولا غيره، حتّى لو كانَت هذهِ الوحدة
مُمكنة"، و عبَّرَ "لورنس" عن رأيهِ بالوحدةِ العربيّةِ، بعدَ أن اُتّهمَ
بدعمهِ لهذا المشروع الموعود: "على حدِّ علمي، لم اقترح ذلكَ.. الصُّعوبات
الجسديّة وحدها، تجعلها خُطة متوحشة بالنسبة إلي، أنا دائمًا كُنتُ انتهازيًا و
واقعيًا في التكتيكات، والوحدة العربيّة هي فكرة المجنون لهذا القرن أو القادم، أنا
مُتأكد من أنني لم أحلم قط بوحدة الحجاز مع سوريا".
إنَّ
العروبة هي فكرة سهلة، لايوجد فيها فلسفة، قائمة على أساس وحدة الدين واللّغة، من
دونِ إعارةِ الانتباهِ إلى الجُغرافيا والعادات والتقاليد المُختلفة واللّهجات
والفارق الحضاري وتعدد الأديان والإثنيات المُمتدة من الخليج العربي إلى المحيط
الأطلطني، هي مُجرد قوت يتشردق فيه السّاسة و يبصقوهُ علينا، إنْ طَأطَئَتْ رؤوسنا
قيلَ عنّا بأننا ظننا بُصاقهمْ مَطرًا و إذْ تمردنا غيرةً على كرامَتِنا لاحتقارهم
لعقولنا اُتهمنا بالخيانة.
تحقيقُ تلكَ
الوحدة العروبيّة، لَمْ تكُن يومًا ضُمنِ الأجندة البريطانيّة، الّتي عانت هي الأُخرى
دعوة السّوريين إلى القتالِ، وكانوا السّوريين وقتها، يترقبون بصبرٍ ماذا سيحُدثُ،
هل سينتصرُ العثمانيين في معركتهم في الشّام، أو القوات العربيّة ستخترق الأتراك و
تصل إلى دمشق، سؤالهم كان، لمن ستميل دفّتةِ القتالِ أكثر !؟، للوقوفِ معهُ في
حربهِ، و عندما يحين الوقت ليُقرر فيه الشّعب رفع السّلاح على أحد الأطراف، ستكون
الحرب قد ولّت و انتهت، و في مُذكرةِ "تياراتِ الصليب السّوري" ذَكَرَ
"لورنس": "إنَّ انتصار أو خسارة غزوةِ الشّريف على سوريا، ستؤثر على
التنافس الأوروبي في المنطقة، و ستحدد أيُّ مِنَ المرشحين سَيُسيطر على طرق
التجارة و المراكز التجاريّة في غرب آسيا".
إنَّ
الخيانةِ الأولى أتت مع رياحِ الثورةِ العربيّةِ الّتي هبّت على دمشق، عندما
اللّتقى الأمير "فيصل بن حُسين بن علي الهاشمي" (1885-1933) قائد الثورة
العربيّة و ملك سوريا و العراق لاحقًا ب "حاييم وايزمان" (1874-1952)
زعيم الحركة الصّهيونيّة في 4 حزيران/يونيو 1918، اتفقوا على إقامةِ وطنٌ قومي يجمع
يهود العالم على أرضِ فلسطين، و هذا الاتفاق أخذَ شكلَ الوثيقةِ الرّسميّة و وقعتْ
في 3 كانون االثاني/يناير 1919، و ادعى حينها الأمير "فيصل" بأنّهُ لم
يستطع قرائَتُها!، ولكن عندما هبّ أخاه الأمير "عبدالله" لنجدته تخلى عن
سوريا و أخذ جنوبها مُعلنًا الأردن إمارةً لهُ بينما ذهب فيصل ملكًا على العراق, و
ماهذا إلّا دليلٌ على سذاجة الأقطاب العربيّة الرئيسيّة و مشاركتهم بشكلٍ مُباشر
أو غير مُباشر في تنفيذ وعد بلفور الّذي أُصيغَ في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917.
وجزءٌ من نص
الاتفاقيّة أتى على الشّكل الآتي: "إن الأمير فيصل ممثل مملكة الحجاز العربيّة
والقائم بالعمل نيابةً عنها، والدكتور حاييم وايزمان ممثل المنظمة الصّهيونيّة
والقائم بالعمل نيابةً عنها، يُدركان القرابة الجنسيّة والصّلات القديمة القائمة
بين العربْ والشّعب اليهودي، و ضمانِ الوسائل للوصول لغايتها الوطنيّة يكون في
اتخاذ أقصى ما يمكن من التعاون في سبيل تقدم الدولة العربيّة وفلسطين".
ويُنص البُند
الرّابع من الاتفاقيّة على: "يجبْ أنْ تُتَخذْ جميعُ الإجراءاتِ لتشجيعِ
الهجرةِ اليَّهوديّةِ إلى فلسطين على مدى واسعٍ، والحثِّ عليها وبأقصى ما يُمكن
مِنَ السُّرعّةِ لاستقرارِ المهاجرين في الأراضي عن طريقِ الاسكانِ الواسعِ
والزراعةِ الكثيفة، وعندَ اتخاذِ مثلِ هذهِ الإجراءاتِ، يجبْ أنْ تُحفظْ حُقوقِ
الفلّاحين والمُزارعين المُستأجرين من العربْ، ويَجِبْ أنْ يُساعدوا في سَيرهم
نحوَ التّقدُمِ الاقتصادي".
وفي نفس
السّياق أُثار امتعاضي "لورنس" مما كتبهُ عن منطقة الجليل عندَ اطّلاعهِ
عليها و كَتَبَ الآتي: "الألمان اليهود الصهاينة يعيشونَ فيها، يتحدثون العبريّة
و الإلمانيّة اليديشيّة، وهي أكثر صعوبة من تلك الّتي تكلموا فيها اليهود في
الحقبةِ الرومانيّة، ولا يستطيعون تَحَمُلِ أيَّ شخصٍ ليسَ من أبناءِ جلدتهم، وليسُ
بمُتسامحين، بعضهم مُزارعين و مُعظمهمْ لديهمْ متاجرهمْ، خلف هؤلاء اليهود يقبعُ
عدوّهم، إنّهُ الفلاح الفلسطيني، وهو أكثرُ غبائًا من الفلّاحِ الّذي يَقطُنُ في
شمالِ سوريا".
وعن
التركيبة الديموغرافيّة في الشّمال السّوري يصفها "لورنس" على الشكلِ
الآتي: "الحدود بين مُتحدثي اللُّغةِ العربيّة و التُركيّة، ليسَتْ بواضحةٍ،
الطريقُ الرئيسي يَصَلُ الإسكندرونة بإعزاز، و منهُ إلى سكةِ حديدِ بغداد، و
يَمتَدُّ جِزءٌ من الطريقِ إلى مدينةِ جرابلس، من الغربِ منها، يتواجدُ النُصريين
(العلويين)، ينحدرون من طائفةٍ دينيّة غريبة كانتْ تقومُ بعبادةِ الخصوبة، لا
يُعجبون بالغريب، يرتابون من المُحمديين، ويتشاركون مع المسيحيين نفس الاضهادِ
الّذي عانوه، إنّها طائفةٌ مُفعمةٌ بالحيويّة، مُتعصبون لديانَتِهم ولا يتدخلوا في
السّياسةِ خوفًا من الأتراك، النُصيري لايخونُ أخاهُ النُصيري، ولا حتّى المُحمدي
ولا المسيحي، تمتدُ قُراهم من تلالِ مرسين
إلى طرطوس وإلى جيبِ طرابلس الشّمالي، موجودين في المنطقةِ مُنذُ القِدمِ، على
الأقلِّ منذُ العصرِ الهيليني، و يخطلطون مع السّوريين المسحيين، وفي جنوبِ نهر
العاصي، سنجدُ الأرمن الأقوياء، يتحدثون التُّركيّة لكن لا يحبون الأتراك، وفي
جنوبِ قريّة حارم غربي حلب، تتواجدُ قُرى يسكُنها الدروز، وهؤلاء.. رجالٌ، مُستعدين
قتلِ أي شخصٍ يقعُ بينَ أيديهم، من الشَّمالِ الشّرقي منهم، يتواجدون الكُرد، و
يتحدثون الكُرديّة و العربيّة، يتزوجون من السّوريين المحليين و يتبنوا سياستهم،
يكرهون المسيحيين و الأتراك و الأوروبيين، وعلى الجانبِ الآخر، يعيشُ الإيزيديين،
الّذين يسترضرون الشّيطان في عبادتِهم، طُقوسِهم وحَّدَتْ المسحيين والمُحمديين
واليهودِ عليهم".
(يذكر أن الشمال السوري سابقاً الذي يتضمنه وصف "لورنس" كان يحتوي على
الأجزاء الجنوبية من تركيا المعاصرة في جنوب جبال طوروس).
السّوريون
يولدون من بطونِ أُمهاتهم خارجين عن القانون، مُنذُ طفولتهم، لا يكترثون لهُ، يطيعون
آباءهم خوفًا على أنفسهم من الضربِ، و كذلك يهابون حكومتهم لنفسِ السّبب، ولكن
يوجد العديد من السّوريين الّذين لا يمشون ضُمنِ القانون العُرفي، جميعهم ليسُ
بمتصلين بحكوماتهم و كُلُّ شخصٍ منهم يُريدُ شيئًا مُختلفًا، فكتبَ
"لورنس": "البعضُ يبكى على مملكةٍ عربيّة، و البعضُ يُطالبُ
بحمايّةٍ أجنبيّة، يحصلون من خلالها على امتيازاتٍ في الحكومة، و غيرهم يُريدُ
سوريا مُستقلة".
ما فاجئني,
هي قدرة "لورنس" على تحليلنا، ومعرفةِ عاداتنا وتقاليدنا، وتبريرهُ
لكُلِّ مُشكلاتنا، و اضائَتِهِ على أكثرِ المواضيعِ سخونة، الّتي احتاجت مِنّا
سُنونٌ من الترعرُعِ في سوريا لمعرفِتها، ولكنْ سُهولة تغَلغُلِ "لورنس"
فينا، لَنْ يجعلُني أُعجبُ بشخصيتهِ السّاحرة، سيبقى عدوّي و جُندي بريطاني، أحنَّ
علينا بهزيمتنا أمامهِ، تكلمَ عن الخِلافاتِ القديمة و الجارفة بين أهلِ حماه و
حُمص، تكلمَ عن مدينةِ بيروت الجديدة و ثرائها و جمالها و سُمنةِ رجالها، و قالَ
عن دمشق بأنّها القائدة الّتي تمشي أمامَ جميعُ المُدنِ و قبلهم.
إلّا أنَّ
ما زادَ الطينُ بِلّة، هو حَقنِ العُثمانيين سُمَّ الطائفيّةِ و العصبيّةِ، على
مدى 400 عام في عروقِ الشّعبِ السّوري، المهزوزِ أساسًا، ويقول "لورنس"
في مُذكرته "سوريا و موادها الخام" الّتي كتبها في 1915 ونشرها المكتبُ
العربي في آذار/مارس 1917: "القاطنون في سوريا لا يمتلكون اسم لبلادهم،
الحلبي دائمًا يُطلق على نفسه بأنّهُ حَلبي، و مَنْ مِنْ بيروت يَصفُ نفسهُ ببيروتي،
وهكذا حتّى إلى أصغر القرى، هذا الفُقر اللّفظي، يُشير إلى حالة سياسيّة، وهو، لايوجدُ
أيُّ شعورٍ قومي في سوريا، بين قريّة و قريّة، عائلة و عائلة، و عقيدةٌ بـِأُخرى،
توجد غيرة غرائزيّة بينهم، يُعززونها الأتراك لجعلِ أيِّ وحدةٍ تلقائيّة بينهم
شبهِ مُستحيلة"، وذكرَ في كتابهِ: "يبدو أنَّ الوقتَ قد أَعلنَ استحالةِ
قيامةِ اتحادٍ مُستقلٍ على هذهِ الأرض.. من عاداتِ هذهِ البلد، التحريضِ الدؤوب و
الثورات المُستمرة".
الخِتامْ:
لم أذكُر
كُلَّ ما لاحظهُ بدراستهِ عنا، ولكنّه نَقَلَ الحقيقة في كُلِّ شيءٍ ذكرهُ، وهذا
ليس بسرٍ إذا قيمنا أنفُسنا بكُلِّ تَجرُّد، وهذا التخلخل في المجتمع قد ولّدَ
عندَ البعضِ ردةِ فِعلٍ، بشّرت بخلاصٍ من ويلاتنا، رسمت الوحدة السّوريّة بأكثرِ
الأشكالِ العقلِ يستحليها، كونت في مضمونها فلسفةً قائمةً على وحدةِ الجُغرافيا
الطبيعيّة و تاريخها الجلي، تُعيدُ للإنسانَ السّوري والعربي كرامته.
فمالّذي
اختلفَ بال 100 سنة الماضيّة، مازلَ جرسُ حلبةِ المصارعة يَدُقُ بين الجولاتِ ليُمهدَ
لسوريين اثنين الاقتتالِ، كونتوناتٌ طائفيّةٌ على كامِلِ لُبنان، إماراتٍ و
حكوماتٍ مُسلحةٍ في الشّام، وفلسطين أُزيلت عن الخارطة السّياسيّة و بنيَّ على
أنقاضِ زيتونها المُستوطناتْ اليهوديّة، و العراق حالهِ حالِ زمانهِ مليئٌ
بالإضرابات وأصبحت أُسود بابل تنهُشها الضباع.
سامي الأطرش
المصادر:
-
كتاب أعمدة الحكمة السبعة.
-
مذكرات سوريا وموادها الخام.
-
المراسلات الرسمية بين لورنس العرب والخاريجة البريطانية.
مصدر الصورة:
Comments
Post a Comment