يوليوس قيصر ومسيرات الانتصار

 يوليوس قيصر ومسيرات الانتصار

"عروض استعراضية تراثية تكشف عن الجانب المذهل للقيصر الروماني".
مسيرات النصر الأربعة هي الحدث الجَلل الأعظم في التاريخ التي توثق رحلة يوليوس قيصر الشّاقة، وبعد مرور 2069 سنة على إقامتها نستذكرها اليوم ونتتبعها كما عاشوها الرومان، حيثُ أقيمت بعد المخاض العسير الذي عاشه حوض البحر المتوسط خلال الحرب الأهلية الرومانية.
والتي كانت صراعًا داميًا بين الببيولاريس والأوبتيميتس في القرن الأول قبل الميلاد، وقد نجح يوليوس قيصر المنتمي إلى الببيولاريس في تحقيق النصر في هذا الصراع الدموي، وذلك بفضل قدرته السياسية والعسكرية الفذّة التي أظهرها خلال الحرب.
وقد تمكّن قيصر من تأسيس النواة الأولى لنظام إمبراطوري جديد في روما بعد انتصاره بدلًا عن النظام الجمهوري، وهو ما جعل منه واحدًا من أهم الشخصيات التاريخية في العالم، وكانوا الأوبتيميتس بقيادة الجنرال الشهير بومبيوس يمثلون النخبة السياسية والاقتصادية، بينما الببيولاريس كانوا يمثلون الفصيل الشعبي والشرائح الاجتماعية الأدنى.



اتسعت رقعة الحرب لتشمل أراضي لم تصلها روما يومًا، وهذا ما روّضة يوليوس قيصر سياسيًا لمصلحته للتغلب على خصومة الرومان، فبالتالي تزامنت الحرب الأهلية بفتوحات عسكرية جديدة معجنَ فيها القائد الخالد يوليوس قيصر ملحميات عظيمة غيّرت من وجه التاريخ، ووافق مجلس الشيوخ الروماني على إقامة أربعة مسيرات نصر مُهيبة تُخلّد انتصارات قيصر، واستخدم قيصر هذه المسيرات بعرض انجازاته وفتوحاته وتضحياته في خدمة روما محاولًا حجب حقيقة قتاله لزملائه الرومان السابقين، واعتُبرَ الحدث الأضخم والأبهر ولم يكن له مثيل لا من قبله ولا من بعده، وشهدت روما مشهدًا مُدهشًا في أيلول 46 قبل الميلاد، حيثُ زينت الشوارع باللافتات المزخرفة والأكاليل المُنسّقة والزهور الملونة والأعلام المُهفهفة، واسطفت الحشود المتلهفة للفرح بعد سنون الترح، التي قَدِمَتْ من كل حدبٍ وصوب لمشاهدة الاحتفالات والمسيرات.
*المسير الأول وفتوحاتهِ لبلاد الغال:
جالت العربات شوارع روما المُكتظة بالجماهير، تحملُ على ظهرها مشاهد مرسومة على لوحات عملاقة لنجاحات قيصر على قبائل الهيلفيتي والسويفيّين الجرمان والبلغاي وعلى شعب الفينيتي وانتصاره في معركة نهر سابيس على قبائل النيرفي والفيروماندوّي والأتريباتيس وأتواتوتشي، تبعها المزيد من العربات التي تصور غزوات قيصر عبر نهر الراين وجرمانيا وعبورهِ الأسطوري إلى بريطانيا ومعركته ضد المقاومة البريتانية بقيادة كاسيفيلونوس، تخللت هذه المشاهد صيحات الحضور الهدارة والعوامات المليئة بالكنوز والمجوهرات والدروع الجميلة والمقتنيات النفيسة والأسلحة المتنوعة ومئات أسرى الحرب الغاليين، وبلغ العرض ذروته بمشاهد تصوّر انتصار قيصر الإعجازي في معركة أليزيا، وأخيرًا عرضوا الزعيم فرسن جتريكس مأسورًا والذي أُطلق عليه لقب ملك الغال.
بعدها، سارت فيالق يوليوس قيصر تغني أغاني النصر وتردد: "أيها الرجال في روما .. ابقوا قريبين من زوجاتكم .. عادَ الزاني الأصلع .. الذي أنفق الذهب الذي اقترضه هنا .. بالبغاء في بلاد الغالِ"؛ كما أورد المؤرخ سويتونيوس. وكانوا الجنود يسيرون بكامل عتادهم العسكري رافعين بيارق الحرب، يتربع يوليوس قيصر بينهم مرتديًا التوغا الأرجوانية المُرصعة بالخيوط الذهبية وعلى رأسهِ إكليل الغار، ولكن عندما مرَّ قيصر من أمام معبد الإلهة فورتونا، انكسرت أحد عجلات مركبته وطُرح قيصر أرضًا وشهقت الجماهيرُ خوفًا، وقد فسّر قيصر هذا الحدث عن تخلّي الإلهة فورتونا عنهُ ونفاذ حظهِ، وبعد إصلاح مركبتهِ امتطاها من جديد لتُكمل مراسم الاحتفال، وعند وصولهِ إلى درج معبد جوبيتر أوبتيموس ماكسيموس قدّم قيصر نذرًا لفورتونا بتسلقه مئات الدرجات المؤدية إلى المعبد جاثيًا على ركبتيه، في الأعلى ذُبحَ الثور القرباني إلى جوبيتر، وأُعدم ملك الغال فرسن جتريكس بعد ستة سنوات من الأسر مع بقية السجناء والقادة الغاليين.



وذَكَرَ أبيان: "جلب معه الغنائم والأسرى، وقاد قطارًا طويلًا من المأسورين، منهم العديد من الملوك والأمراء، من بينهم ابن ملك السويفي، وابن ملك البريطانيين". ترافق موكب النصر مع تنظيم المآدب العامة والبرامج الترفيهية في جميع أنحاء المدينة، وقُدّمت تسالي مختلفة، كسباقات عربات الخيول، وعروض موسيقية ومسرحية، ومسابقات في الشّعرِ والبلاغة، ومعارك تمثيلية- واحدة مع ألف جندي مشاة يعارضون ألفًا آخر، وثانية تتكون من 200 من الفرسان على كل جانب، وآخر كان قتالًا مختلطًا للمشاة وسلاح الفرسان.
*المسير الثاني وانتصارهِ في مصر البطلمية:
المسير الثاني أعقب الأول وتخلله مشاهد مرسومة ومنحوتة بدقة وحرفية مذهلة عن انتصارات قيصر على جيوش بطليموس الثالث عشر في معركة نهر النيل، وحملت الرسومات دعاية ملهمة لقيصر وهو يقفز في الماء من سفينته للسيطرة على ميناء الإسكندرية وعلى الهيبتاستاديون الإنجاز المعماري الذي يربط الإسكندرية بجزيرة فاروس، ومرت عوامات تحمل مشاهد تصوّر المعركة البحرية الصعبة فوق مياه المدينة الضحلة ضد بحرية الملكة المصرية أرسينوّي بقيادة جانيميدس، ومشت عربات تعرض الغنائم وتماثيل الآلهة المصرية وصناديق مفتوحة يملئها الذهب وفائض من الجواهر.
خلف العربات مشى السجناء الإسكندريين والمصريين أمام ملكتهم أرسينوّي، ولم يعتد الرومان على رؤية النساء الأسرى في مثل هذه العروض، وفوجئوا بالملكة المصرية المُكبلة والتي كانت تحمل عبء نفسها بكُل رشاقة وكرامة، حدثت بعض البلبلة واكتسبت تعاطف الجماهير التي بدأت بالهتاف لقيصر لكي يرأف عنها وينقض بالاتفاق مع شقيقتها كليوبترا، اُجبر قيصر على النزول تحت طلب الشعب وقام بنفيها لاحقًا إلى معبد أُفسس الكبير لتصبح كاهنة للآلهة آرتميس، على الرغمِ من الحاجة السياسية لشقيقتها كليوبترا بقتلها التي كانت تشاهد الحفل من بعيد، وفي ختام مسير النصر المصري أُغرقَ جزء من الكامبوس مارتيوس- واحدة من الساحات الكُبرى في روما ونُظمت معركة بحرية فيها 4000 مُجدّف وألف مقاتل من مشاة البحرية، مع استمرار توزيع الطعام المجاني والمشروبات.
*المسير الثالث واستعادتهِ لآسيا الصُغرى:
احتفل قيصر بانتصاره الثالث على جيوش فارناسيس الثاني ملك البوسفور والبنطس في معركة زيلا في آسيا الصُغرى التي كُسحت فيها فرسان فارناسيس، مُستوليًا قيصر على الأراضي التاريخية لمملكة البنطس التي استعادها فارناسيس مُستغلًّا الإضطرابات والحرب الأهلية الرومانية، حملة قيصر في آسيا لم تحظى بالتوثيق الملائم، ولكون قيصر لم يستطع أن يأسر الملك فارناسيس الثاني ليتباهى به أثناء العرض، فحوّل المسير إلى حملة إعلانية عن إقتباسه الشهير “Vini, Vidi, Vici” بمعنى "أتيتُ، فرأيتُ، فانتصرتُ"؛ وتفاخُرهِ باحتلالهِ لآسيا الصُغرى في غضونِ خمسةِ أيّامٍ فقط، بالتوازن تمَّ إدراج مسابقات صيد الوحوش البرية التي ضمت أكثر من 400 أسد على قائمة الأنشطة الترفيهية وصاحبها المزيد من الولائم، التي بدأت تثقل على بطون الرومان، وأمّا الاحتفالات التي بدت لا نهائية ضَعُفَ حماسها شيئًا فشيء، واشتكى الكثيرون من بذخ قيصر.
*المسير الرابع وإخضاعهِ مملكة نوميديا:
بحلول المسير الرابع بدأ الشعب بالشعور بالضجر من الاحتفالات والتخامة من كثرة المأكولات وانتشرت حالات التقيئ بسبب كرعِ الكحولياتِ، وأمّا قيصر محاولًا لتبييض سمعته بعد الحرب الأهلية قدّم هذا الإنتصار الأخير للشعب على أنّهُ انتصار على مملكة نوميديا والملك جوبا، الذي جعله حجّتهِ الرئيسية لتبرير حملتهِ على إفريقيا وقَتْلِ منافسيه الرومان، ولكن تكتيكات قيصر باءت بالفشل هذه المرة وأتت بنتائج عكسية.
حملت أول عربة، لوحة ضخمة تصوّر القنصل الروماني كوينتوس سكيبيو ناسيكا وهو يطعن نفسه بالخنجر قبل أن يُلقي بنفسهِ في البحرِ، وسرعان ما تبعت هذه العربة بواحدة أُخرى تصوّر قائد روماني آخر ماركوس بيترايوس مُسممًا نفسه بعد منازلتهِ للملك جوبا وقتلهِ إيّاه بعدما اتفقوا الاثنين على قتلِ نفسيهما تفاديًا للوقوع بين يدي يوليوس قيصر، ولكن عندما مرّت عربة تصوّر المشهد المروع لماركوس بورسيوس كاتو الأصغر وهو ينتزع أحشائهِ بيديه، سئم شعب روما وشعروا بالإهانة حينها، وعرفوا أن يوليوس قيصر لم يكن يحتفل بالنصر على عدو أجنبي بل كان يحتفل بقتله أخصامه الرومان السياسيين.



تلت تلك العربات الأسرى النوميديين، ومع أنَّ الملك جوبا قُتل أثناء الحملة، عيّن قيصر ابن جوبا البالغ من العمر سنتين فقط ملكًا جديدًا على نوميديا، وعندما شاهدت الجماهير الملك الطفل مُكبّلًا ومُقتادًا إلى منصةِ إعدامه، أُثير سخطهم على قيصر واستهجنوا معارضين سفكهِ، من جديد تراجع قيصر كما فعل مع الملكة أرسينوّي واحتفظ بالطفل كرهينة رومانية في منزلهِ، وبالتوازي مع المسير الإفريقي تم تنظيم معركة بين الفيلة والوحوش البرية، ازدادت وتيرة الانتقادات من الحشود بسبب إسراف قيصر وإهدار الأموال وحيوات الحيوانات باسم الدعاية والترفيه.
انتهت المسيرات الاستعراضية بنهاية العرض الإفريقي، ولكن استمرت فعاليات ترفيهية ثانوية وحالة البهجة على العموم، وقد قيل أنه تم توزيع وعرض أموال بقيمة 200 طن ما يوازي 70 مليون دولار، وقُدّمَ لِكُل جندي 20 ألف سِسترسي بقيمة 10 آلاف دولار، ولكل ضابط مَئة- كونتوريون ضعف المبلغ، ولكل طروبون وقائد جيش ضعف المبلغ أيضًا أي تقريبًا 40 ألف دولار، ماعدا الرواتب المقطوعة والأموال التي اغتنموها أثناء حملاتهم العسكرية، ولكل مواطن من عامة الشعب الأحرار 100 دينار بقيمة 200 دولار في أموال اليوم.



كانت مسيرات الانتصار استعراضًا لشخصية وبأس قيصر وجبروته، وشهادة على عبقريته السياسية التي سلّطت الضوء على براعته العسكرية. كما تم عرض الثروة والكنوز التي تم إحضارها من الأراضي المحتلة، والتي توضح النطاق الشاسع لإمبراطورية قيصر، وتجنّب قيصر محاكاة هزيمة ومقتل بومبي لكون مصرعهِ ما زالَ حاضرًا في ذاكرة الرومان.
ومع ذلك، لم يخلو الحدث من النقد والجدل، فغَضِبَ العديد من أعضاء مجلس الشيوخ والأرستقراطيين من مشاهد الرياشة والسلطة، ورأى معارضو قيصر على أنه إبراز للقوة المفرطة وتعظيم الذات، وأدى تأليه قيصر في نظر الجماهير إلى تأجيج مخاوفهم، ولم يؤدي ذلك إلّا إلى زيادة استيائهم وشكوكهم في طموحات قيصر، وعلى الرغم من ردود الفعل المتباينة، لا يزال موكب يوليوس قيصر حدثًا مُهمًا في التاريخ الروماني، وتأثيره محسوسًا حتى اليوم، وكان بمثابة تذكير بقوة الدعاية والإرث الدائم لواحدة من أكثر الشخصيات نفوذًا وسطوةً وجمالًا في التاريخ.
المصادر:
- تعليقات على الحرب الغالية | De Bello Gallico؛ غايوس يوليوس قيصر
- حياة القياصرة | De Vita Caesarum؛ سويتونيوس ترانكويليوس
- الحروب الأهلية | De Bella Civilia؛ أبيانوس الإسكندراني
- تاريخ روما | Romana Historia؛ كاسيوس ديو
معرض الصور:
Triumphs of Caesar by Andrea Mantegna (1484- 1492)
Tempera on canvas | 270.3 x 280.7 cm
Royal Collection, Hampton Court, London UK

Comments